قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده
وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي
الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب
عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق
به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.
سبب الغزوة
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن
يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في
عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر
جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً
على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت
بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت
بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه
الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر
في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له:
[الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني
بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا
خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا
ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له: رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم
عرضت له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني
كعب).
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة
قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق،
لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه
الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء
غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة).
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي
النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن
هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا.
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها
النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال:
أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي
عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً،
ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم
به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة،
فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان،
لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس،
فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير
بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي،
فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة،
فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني
شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو
سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب
بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته،
فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت
عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد
أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا:
وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز
ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك.
قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل
أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما
أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول
الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم
الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً...
الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان،
وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز،
وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش
حتى نبغتها في بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها
ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي
خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ
؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك
الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه
قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن
العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ
خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى
وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت:
ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف
بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن
الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون
رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً،
فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله.
والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ
مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس
لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني
ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني
يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل
الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)،
فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم،
واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري.
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان
قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن
أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت
له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي
سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له
ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن
يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فأنشده
أبو سفيان أبياتاً منها:
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ
الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه.
ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش،
فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر
قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان
يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء
يتجسسون الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو
سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول
بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل
وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن
عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من
هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا:
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن
الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة
قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد،
ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت،
فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه
عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت:
يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في
شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت
مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام
الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا
أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن
لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟
لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد.
قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)،
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس
حتى الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له
شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه
بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن
يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله
فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا
عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر
به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول:
ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها،
فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا
الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد
بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ
ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة،
قال: فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم
يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً.
فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله،
ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا.
فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في
قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم
تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد
فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد.
وقيل: بل دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا
معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي
سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت:
اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا
قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما
تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو
آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا:
نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا.
فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل
بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ
حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما
أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه
شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم
وحزبه الأمـين، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي
الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب
عِزِّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً، وأشرق
به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.
سبب الغزوة
قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن
يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في
عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر
جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً
على ذلك الفريق.
وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت
بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت
بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه
الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من
خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر
في شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له:
[الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني
بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا
خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا
ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولي لهم يقال له: رافع.
وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم
عرضت له سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني
كعب).
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة
قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق،
لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه
الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش إزاء
غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة).
وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي
النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن
هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمداً؟ قال: لا.
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها
النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها النوي، فقال:
أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً.
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، أرغبت بي
عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر.
ثم خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً،
ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما أنا بفاعل. ثم أتي عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم
به، ثم جاء فدخل على على بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة،
فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان،
لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس،
فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير
بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلى بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي،
فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة،
فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنياً عني
شيئاً؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو
سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب
بعيره، وانطلق.
ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمداً فكلمته،
فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت
عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد
أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟ قالوا:
وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز
ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك.
قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل
أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما
أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول
الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم
الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز: يا رب إني ناشد محمداً...
الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان،
وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز،
وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش
حتى نبغتها في بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها
ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي
خَشَب وذي المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ
؛ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك
الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته.
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه
قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن
العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ
خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى
وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت:
ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً. فقال لها علي: أحلف
بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن
الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون
رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً،
فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله.
والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ
مُلْصَقـًا في قريش ؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس
لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني
ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني
يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل
الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)،
فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة متجهاً إلى مكــة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم،
واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري.
ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان
قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن
أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت
له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على لأبي
سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له
ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ
عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فإنه لا يرضي أن
يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، فأنشده
أبو سفيان أبياتاً منها:
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ
الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه.
ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش،
فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر
قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان
يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء
يتجسسون الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو
سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً. قال: يقول
بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل
وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن
عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من
هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا:
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن
الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة
قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد،
ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة فسبقت،
فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه
عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت:
يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في
شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت
مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام
الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا
أصبحت فأتني به)، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن
لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟
لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد.
قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)،
قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس
حتى الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له
شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه
بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن
يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله
فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا
عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ سليم، فيقول: مإلى ولِسُلَيْم؟ ثم تمر
به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول:
ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها،
فإذا أخبره قال: مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا
الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله! يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد
بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلْكُ
ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة،
قال: فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم
يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً.
فلما حـاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله،
ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا.
فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في
قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل اليوم يوم
تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً) ثم أرسل إلى سعد
فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد.
وقيل: بل دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا
معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي
سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت:
اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم.
قال أبو سفيان: ويلكم، لاتغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا
قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما
تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو
آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشاً لهم، وقالوا:
نقدم هؤلاء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا.
فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل
بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ
حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما
أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه
شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم