بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى
من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي
حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة
التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان
هذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث
لا يشعرون. فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في
الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال: لا تبت
هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ
إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله
عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي
بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا
فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعة
إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.، فاستأذن،فأذن له فدخل،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: [أخرج مَنْ عندك]. فقال
أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله . قال: [فأني قد
أذن لى في الخروج]، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نعم].
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل. وقد استمر في
أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي
أمر آخر اتقاء مما قررته قريش.
تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة
التى أبرمها برلمان مكة [دار الندوة] صباحًا، واختير لذلك أحد عشر
رئيسًا من هؤلاء الأكابر، وهم:
1ـ أبو جهل بن هشام.
2ـ الحَكَم بن أبي العاص.
3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط.
4ـ النَّضْر بن الحارث.
5ـ أُمية بن خَلَف.
6ـ زَمْعَة بن الأسود.
7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ.
8 ـ أبو لهب.
9ـ أبي بن خلف.
10ـ نُبَيْه بن الحجاج.
11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج.
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد
صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام
الليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى
ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه.
فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى
بيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه
نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل
وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء:
إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم
بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له
فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله
عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب
على أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار
عليه، فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ُ وَالله ُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته
وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء
فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو:
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9]. فلم يبق
منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من
خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن.
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة
والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما
تنتظرون؟ قالوا: محمدًا. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر
على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا
ينفضون التراب عن رءوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد
نائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علىٌّ عن الفراش،
فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم
لي به.
من الدار إلى الغار
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من
النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ
الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخير
من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب،
وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى
المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب
مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل
يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار
كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشى في
الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله
أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة
الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
إذ هما في الغار
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن
كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره
وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره
ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: [ما لك يا أبا بكر؟] قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده.
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد.
وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب
ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا
يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و
[كان] يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم،
فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن
مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل
ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر
عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه
وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا
عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما.
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه،
فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا
أدرى والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم
خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها
القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة [في جميع الجهات]
تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة
ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من
كان.
وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري
عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار،
فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله ، لو أن بعضهم
طأطأ بصره رآنا. قال: [اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما]،
وفي لفظ: [ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما].
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
في الطريق إلى المدينة
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد
استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ
ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه
راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة
الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله
بن أريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم عند
مشاورته في البيت: بأبي أنت يا رسول الله ، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقرب
إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. وأتتهما أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا،
فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين،
فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل
معهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق
السواحل.
وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن،
ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه
شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا
نادرًا.
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا الطريق، قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما
على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج،
ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما
من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم
سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة
مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذى
الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على
الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على
العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما
ثنية العَائِر ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما
على قُباء.
وهاك بعض ما وقع في الطريق
1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن
الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة
طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله
عليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول
الله ، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع
مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا
غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟
قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض
الضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعى إداوة
حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوى منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء
على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت، ثم
قال: [ألم يأن للرحيل؟] قلت: بلى، قال: فارتحلنا.
2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه
وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى
الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل
يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير.
3ـ وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكان
موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة،
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مر
بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما
أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: [ما
هذه الشاة يا أم معبد؟] قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال:
[هل بها من لبن؟] قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: [أتأذنين لى أن
أحلبها؟] قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ
عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة،
فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا،
حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأي
اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟
فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن
حاله كذا وكذا، قال: أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى يا
أم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو
أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال
أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت
أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا. وأصبح صوت بمكة عاليًا
يسمعونه ولا يرون
من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي
حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة
التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان
هذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث
لا يشعرون. فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في
الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال: لا تبت
هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ
إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله
عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي
بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا
فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعة
إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.، فاستأذن،فأذن له فدخل،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: [أخرج مَنْ عندك]. فقال
أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله . قال: [فأني قد
أذن لى في الخروج]، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نعم].
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل. وقد استمر في
أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي
أمر آخر اتقاء مما قررته قريش.
تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة
التى أبرمها برلمان مكة [دار الندوة] صباحًا، واختير لذلك أحد عشر
رئيسًا من هؤلاء الأكابر، وهم:
1ـ أبو جهل بن هشام.
2ـ الحَكَم بن أبي العاص.
3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط.
4ـ النَّضْر بن الحارث.
5ـ أُمية بن خَلَف.
6ـ زَمْعَة بن الأسود.
7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ.
8 ـ أبو لهب.
9ـ أبي بن خلف.
10ـ نُبَيْه بن الحجاج.
11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج.
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد
صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام
الليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى
ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه.
فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى
بيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه
نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل
وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء:
إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم
بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له
فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله
عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب
على أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار
عليه، فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ُ وَالله ُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته
وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء
فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو:
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9]. فلم يبق
منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من
خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن.
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة
والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما
تنتظرون؟ قالوا: محمدًا. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر
على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا
ينفضون التراب عن رءوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد
نائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علىٌّ عن الفراش،
فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم
لي به.
من الدار إلى الغار
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من
النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ
الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخير
من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب،
وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى
المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب
مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل
يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار
كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشى في
الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله
أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة
الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
إذ هما في الغار
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن
كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره
وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره
ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: [ما لك يا أبا بكر؟] قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده.
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد.
وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب
ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا
يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و
[كان] يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم،
فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن
مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل
ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر
عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه
وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا
عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما.
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه،
فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا
أدرى والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم
خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها
القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة [في جميع الجهات]
تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة
ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من
كان.
وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري
عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار،
فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله ، لو أن بعضهم
طأطأ بصره رآنا. قال: [اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما]،
وفي لفظ: [ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما].
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
في الطريق إلى المدينة
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد
استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ
ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه
راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة
الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله
بن أريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم عند
مشاورته في البيت: بأبي أنت يا رسول الله ، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقرب
إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. وأتتهما أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا،
فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين،
فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل
معهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق
السواحل.
وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن،
ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه
شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا
نادرًا.
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذا الطريق، قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما
على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج،
ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما
من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم
سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة
مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذى
الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على
الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على
العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما
ثنية العَائِر ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما
على قُباء.
وهاك بعض ما وقع في الطريق
1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن
الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة
طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله
عليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول
الله ، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع
مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا
غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟
قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض
الضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعى إداوة
حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوى منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء
على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت، ثم
قال: [ألم يأن للرحيل؟] قلت: بلى، قال: فارتحلنا.
2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه
وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى
الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل
يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير.
3ـ وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكان
موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة،
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مر
بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما
أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: [ما
هذه الشاة يا أم معبد؟] قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال:
[هل بها من لبن؟] قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: [أتأذنين لى أن
أحلبها؟] قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ
عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة،
فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا،
حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأي
اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟
فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن
حاله كذا وكذا، قال: أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى يا
أم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو
أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال
أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت
أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا. وأصبح صوت بمكة عاليًا
يسمعونه ولا يرون