الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (
بيان
السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا».
و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» بعد قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه».
فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة و الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوة المسيح (عليه السلام) و لعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و غير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة و هي قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحث على تقوى الله سبحانه.
و السورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم» الآية و سيجيء ما فيه من الكلام.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما» العوج بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع،: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام.
انتهى.
و لعل المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى.
فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: «لا ترى فيها عوجا - بكسر العين - و لا أمتا»: طه: 107 فافهم.
و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه و هو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح و السداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق و الخلق الحسن و العمل الصالح و أن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري و تقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص و للدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل «إلخ» ليس على ما ينبغي.
و قوله: «و لم يجعل له عوجا» الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله: «قيما» حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له و أنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.
و قيل إن جملة «و لم يجعل له عوجا» معطوفة على الصلة و «قيما» حال من ضمير «له» و المعنى و الذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن «قيما» منصوب بمقدر، و المعنى: و الذي لم يجعل له عوجا و جعله قيما، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيما لا عوج له.
و قد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.
و قيل: إن في الآية تقديما و تأخيرا، و التقدير نزل الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هو أردأ الوجوه.
و قد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدم طبعا على التكميل.
و وقوع «عوجا» و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
و القيم هو الذي يقوم بمصلحة الشيء و تدبير أمره كقيم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في أمورها، و الكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، و الذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق و العمل الصالح كما قال تعالى: «يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم»: الأحقاف: 30، و هذا هو الدين و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: «فأقم وجهك للدين القيم»: الروم: 43 و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم و أخراهم.
و ربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: «و ذلك دين القيمة»: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة و هو نوع تجوز.
و قيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين» إلخ يؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات» الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: «الذين يعملون الصالحات» إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن و يفسق في عمله.
و الجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.
و المراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: «ماكثين فيه أبدا» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» و هم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له و ربما قالوا بذلك في الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و ذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه» لمزيد الاهتمام بشأنهم.
قوله تعالى: «ما لهم به من علم و لا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم» كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله أنى يكون له ولد و لم تكن له صاحبة و خلق كل شيء»: الأنعام: 101.
و قد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم و ثانيا بقوله في آخر الآية: «إن يقولون إلا كذبا».
و كان قوله: «ما لهم به من علم» شاملا لهم جميعا من آباء و أبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا و هم أعلم منا و ليس لنا إلا أن نتبعهم و نقتدي بهم فرق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا و عن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم و لحجتهم جميعا.
و قوله: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم» ذم لهم و إعظام لقولهم: اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسم و التركب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
و ربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه، و كذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.
و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف و نحوه لكنهما ممنوعان شرعا و كفى ملاكا لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.
قوله تعالى: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» البخوع و البخع القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارة على الأرض، و الأسف شدة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.
و الآية و اللتان بعدها في مقام تعزية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدة الحزن، و قد دل على إعراضهم و توليهم بقوله: على آثارهم و هو من الاستعارة.
قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا» إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشيء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.
و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية و هو أن النفوس الإنسانية - و هي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محك التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنت إليها.
فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.
و هذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه و اختياره ليختبرهم بذلك ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزينة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: «و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال - و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام: 94.
فمحصل معنى الآية لا تتحرج و لا تأسف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت و لا شيء مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.
و قد ظهر بما تقدم أن قوله: «و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا» من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.
و ربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنا سنعيد ما على الأرض من زينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله صعيدا أملس لا نبات فيه و لا شيء عليه.
و قوله: «ما عليها» من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنا لجاعلوه، و لعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): لينذر بأسا شديدا من لدنه» قال: البأس الشديد علي (عليه السلام) و هو من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه»: أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): و هو من التطبيق و ليس بتفسير.
و في تفسير القمي، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «فلعلك باخع نفسك «يقول: قاتل نفسك على آثارهم، و أما أسفا يقول حزنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية «لنبلوهم أيهم أحسن عملا» فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «صعيدا جرزا» قال: لا نبات فيها.
بيان
السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا».
و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» بعد قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه».
فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة و الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوة المسيح (عليه السلام) و لعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و غير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة و هي قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحث على تقوى الله سبحانه.
و السورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم» الآية و سيجيء ما فيه من الكلام.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما» العوج بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع،: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام.
انتهى.
و لعل المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى.
فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: «لا ترى فيها عوجا - بكسر العين - و لا أمتا»: طه: 107 فافهم.
و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه و هو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح و السداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق و الخلق الحسن و العمل الصالح و أن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري و تقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص و للدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل «إلخ» ليس على ما ينبغي.
و قوله: «و لم يجعل له عوجا» الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله: «قيما» حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له و أنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.
و قيل إن جملة «و لم يجعل له عوجا» معطوفة على الصلة و «قيما» حال من ضمير «له» و المعنى و الذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن «قيما» منصوب بمقدر، و المعنى: و الذي لم يجعل له عوجا و جعله قيما، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيما لا عوج له.
و قد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.
و قيل: إن في الآية تقديما و تأخيرا، و التقدير نزل الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هو أردأ الوجوه.
و قد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدم طبعا على التكميل.
و وقوع «عوجا» و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
و القيم هو الذي يقوم بمصلحة الشيء و تدبير أمره كقيم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في أمورها، و الكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، و الذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق و العمل الصالح كما قال تعالى: «يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم»: الأحقاف: 30، و هذا هو الدين و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: «فأقم وجهك للدين القيم»: الروم: 43 و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم و أخراهم.
و ربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: «و ذلك دين القيمة»: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة و هو نوع تجوز.
و قيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين» إلخ يؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات» الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: «الذين يعملون الصالحات» إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن و يفسق في عمله.
و الجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.
و المراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: «ماكثين فيه أبدا» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» و هم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له و ربما قالوا بذلك في الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و ذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه» لمزيد الاهتمام بشأنهم.
قوله تعالى: «ما لهم به من علم و لا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم» كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله أنى يكون له ولد و لم تكن له صاحبة و خلق كل شيء»: الأنعام: 101.
و قد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم و ثانيا بقوله في آخر الآية: «إن يقولون إلا كذبا».
و كان قوله: «ما لهم به من علم» شاملا لهم جميعا من آباء و أبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا و هم أعلم منا و ليس لنا إلا أن نتبعهم و نقتدي بهم فرق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا و عن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم و لحجتهم جميعا.
و قوله: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم» ذم لهم و إعظام لقولهم: اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسم و التركب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
و ربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه، و كذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.
و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف و نحوه لكنهما ممنوعان شرعا و كفى ملاكا لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.
قوله تعالى: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» البخوع و البخع القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارة على الأرض، و الأسف شدة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.
و الآية و اللتان بعدها في مقام تعزية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدة الحزن، و قد دل على إعراضهم و توليهم بقوله: على آثارهم و هو من الاستعارة.
قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا» إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشيء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.
و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية و هو أن النفوس الإنسانية - و هي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محك التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنت إليها.
فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.
و هذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه و اختياره ليختبرهم بذلك ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزينة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: «و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال - و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام: 94.
فمحصل معنى الآية لا تتحرج و لا تأسف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت و لا شيء مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.
و قد ظهر بما تقدم أن قوله: «و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا» من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.
و ربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنا سنعيد ما على الأرض من زينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله صعيدا أملس لا نبات فيه و لا شيء عليه.
و قوله: «ما عليها» من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنا لجاعلوه، و لعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): لينذر بأسا شديدا من لدنه» قال: البأس الشديد علي (عليه السلام) و هو من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه»: أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): و هو من التطبيق و ليس بتفسير.
و في تفسير القمي، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «فلعلك باخع نفسك «يقول: قاتل نفسك على آثارهم، و أما أسفا يقول حزنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية «لنبلوهم أيهم أحسن عملا» فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «صعيدا جرزا» قال: لا نبات فيها.